سورة الصافات - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصافات)


        


{وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
لقد نجّى اللّه إبراهيم من النار، وأغرق قومه في لجج الكفر والضلال، فتركهم إبراهيم يتخبطون في هذا البحر اللجّى من الضلال، وقال: {إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي إنى متجه إلى ربى، معتزل إياكم، متخذ دارا غير داركم، وموطنا غير موطنكم.. ولا أدرى إلى أين سأذهب.. ولكنى موقن أن اللّه سيهدينى إلى خير دار، وأطيب مقام، هذا هو ظنى بربي الذي أعبده وأسلم أمرى له.
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} وهنا يجد إبراهيم نفسه وحده، بعيدا عن الأهل والوطن.. وقد خلا قلبه من الاشتغال بأمر قومه، فالتفت إلى نفسه، ووجد أن لا ولد له، يؤنسه في وحدته، ويشد ظهره في غربته، فسأل ربه أن يرزقه ولدا صالحا، تقربه عينه حين يراه مؤمنا بربه، لا تختلف بينه وبينه السبل، كما اختلفت من قبل بينه وبين أبيه، هو.
{فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} واستجاب اللّه لإبراهيم دعاءه، وجاءته البشرى من اللّه سبحانه بهذا الولد الذي طلبه، وأنه {غلام حليم}.
رزين العقل، راجح الرأى، يستدل بعقله على مواقع الحق في كل أمر يعرض.. وحسب المرء- كمالا، وصلاحا- أن يكون معه عقل سليم، وإدراك صحيح.. والحلم ضد الجهل.
قال الشاعر.
أحلامنا تزن الجبال رزانة *** وتخالنا جنّا إذا ما نجهل
والجهل من واردات العقل السقيم، والإدراك القاصر.
هذا، ولم يرد في القرآن الكريم أن وصف اللّه أحدا بالحلم غير إبراهيم، وهذا الولد الذي بشر به، وهو إسماعيل عليه السلام.. فقال تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [75: هود] وهذا يعنى أن هذا الغلام، هو على صورة أبيه إبراهيم، في كمال عقله، وسلامة إدراكه.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
قيل إن إبراهيم- عليه السلام- حين تلقى هذه البشرى من ربه، رأى أن يكون شكره للّه، على هذا الإحسان، وهذا اللطف، بالمبادرة بالاستجابة لما طلب- رأى أن يكون شكره للّه أن يقدم هذا الولد قربانا للّه.. وكانت تلك عادة أهل هذا الزمن، في المبالغة في التقرب إلى اللّه.
فلما رزق إبراهيم إسماعيل، وهو على نية التقرب به إلى ربه، متى بلغ مبلغ الرجال- رأى في منامه وهو على تلك النية التي لم يحدد لها يوما معينا- رأى في منامه أن يذبح هذا الابن، وكان قد بلغ معه السعى، أي صار قادرا على أن يعمل مع أبيه، وأن يسعى له في بعض حاجاته.. فعرف إبراهيم من هذه الرؤيا أنها تذكير من اللّه سبحانه بالوفاء بما نذر، وأن يوم الوفاء قد جاء.. فكان هذا الحديث الذي جرى بين الأب وابنه.
{يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ.. فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟} إن الأمر أمر اللّه.. وإن لك في هذا الأمر مثل الذي لى.. فإن رأيت أن تطيع أمر اللّه أطعت أنا أمر اللّه فيك، فما ذبحك بيدي بأقل ابتلاء لى من ابتلائك! فهل أنت مطيع لأمر اللّه؟ إن الأمر إليك في هذا.. {فَانْظُرْ ما ذا تَرى!}؟
وماذا يرى الولد- وهو صورة من أبيه- إلا الامتثال لأمر اللّه، والطاعة المطلقة لحكمه فيه..؟
{قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} إنه جواب المؤمن باللّه، إيمانا لا يرى معه لنفسه حقّا إلى جانب ما للّه فيه من حق.. إنه كلّه ملك للّه، وللمالك أن يتصرف كما يشاء فيما ملك.
قيل: إن قول إسماعيل حين قرن مشيئة للّه بما سيكون عليه من صبر مضاف إلى صبر الصابرين- قد كان سببا في أن وفّاه اللّه جزاء الصابرين كاملا، فنجاه من هذا البلاء، وفداه بالذبح العظيم، على حين أن موسى عليه السلام، إذ قرن مشيئة اللّه بما وعد به العبد الصالح من الصبر، وخص بهذا الصبر نفسه فقال:
{سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً} لم يعط الصبر الذي ينال به ما طلب من صاحبه، من علم، بل تفرقت بينهما سبل بعد ثلاث مراحل على هذا الطريق الذي سلكاه معا.
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أسلما: أي استسلما لأمر اللّه، ورضيا حكمه فيهما.
تلّه للجبين: أي طرحه على التلّ: والتلّ: المكان المرتفع، كهضبة أو نحوها.. والجبين. الجبهة.. والمعنى: أنه لما أن امتثل الولد ما دعاه إليه أبوه، وأسلما أمرهما إلى اللّه، وأسلم وجه ابنه للتلّ، أي وضع وجهه عليه، حتى لا يرى بعينيه عملية ذبحه، ناداه ربّه: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا- لما حدث كلّ هذا، قبلنا نذره، وتقبلنا قربانه، وجزيناه الجزاء الأوفى.. {إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي فمثل هذا الجزاء العظيم نجزى أهل الإحسان.
فجواب {لمّا} في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَما} محذوف، دلّ عليه قوله تعالى {إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ ياإِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} واقعا في حيّز {لمّا} وهذا الذي ذهبنا إليه يخالف الرأى الذي عليه المفسرون، وهو أن جواب {لمّا} واقع تقديرا بعد {أسلما}.
ويكون قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}.
كلام مستأنف، وما بعده معطوف عليه.. أو أن الجواب هوقوله تعالى: {وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} وأن الواو زائدة!! قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} هو تعقيب على هذا الحدث العظيم، وعلى هذا الامتحان الذي امتحن اللّه به عبدين من عباده المؤمنين.
وفى هذا التعقيب تنويه من اللّه سبحانه وتعالى بهذين النبيين الكريمين، وبوثاقة إيمانهما، وأنهما كانا أهلا لهذا الامتحان العظيم.
قوله تعالى: {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الفداء: هو افتداء شيء بشىء، وإحلاله محلّه في مقام البذل، والإحسان.
وفى هذا يقول النابغة الذبياني:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم *** وما أثمّر من مال ومن ولد
والذبح: ما يذبح من الحيوان.
ومن الجزاء الحسن الذي جازى اللّه به إبراهيم، أنه سبحانه تقبل قربانه إلى اللّه بولده، دون أن يصاب هذا الولد بسوء.. ثم ضاعف هذا الإحسان بعد أن تولى سبحانه فداء هذا الولد بهذا الذبح العظيم الذي قدمه لإبراهيم.. فإبراهيم أراد أن يقدم قربانا للّه، فقدم اللّه سبحانه له قربانا من فضله وإحسانه. وهذا ما يشير إليه وصف الذبح بأنه عظيم.. لأنه مقدّم من عند اللّه الذي تقدم إليه القربات!! فما أعظم هذا الإحسان، وما أكرم هذا العطاء، الذي لا يستقلّ بحمده الوجود كله!
وليس الشأن في هذا الذّبح، أكان كبشا نزل من الجنة، أو أخذ من الأرض.. وإنما الشأن في أنه كان رمزا لرضا اللّه، وتبادله الإحسان مع خليله إبراهيم.
قوله تعالى: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}.
ومن إحسان اللّه تعالى على خليله إبراهيم، أن جعل له ذكرا باقيا بعده إلى يوم الدين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب.
قوله تعالى: {سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ}.
هو سلام من اللّه عليه، وسلام من المؤمنين باللّه، على من سلّم للّه عليه.
وهذا من الذكر الحسن، الباقي على الزمن،. فعلى لسان كل مؤمن، ثناء وسلام على إبراهيم إلى يوم الدين.
قوله تعالى: {كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
أي بمثل هذا الجزاء الحسن، وهو الذكر المتجدد بالثناء، نجزى المحسنين من عبادنا، فنبقى لهم في الناس ذكرا طيبا، ونجعل فيهم الأسوة الحسنة لكل من يريد الإحسان.
قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.
هو تعليل لهذا الإحسان العظيم الذي أفاضه سبحانه وتعالى على خليله، وأن الإيمان باللّه، هو الذي سلك به هذا المسلك، ورفعه إلى هذا المقام.
وأن من أراد أن يكون في عباد اللّه المحسنين، فليكن أولا من عباد اللّه المؤمنين.. فإنه لا إحسان إلا على أساس متين من الإيمان.
قوله تعالى: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}.
أي ومن الجزاء الحسن كذلك لإبراهيم أن بشره اللّه سبحانه بولد آخر إلى جانب هذا الولد، الذي أراد ذبحه وتقديمه قربانا للّه.
قوله تعالى: {وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}.
أي وجعلنا البركة مشتملة عليه وعلى إسحق، وذلك بتكثير نسلهما، وجعل النبوة والكتاب في ذريتهما.
وفى قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} إشارة إلى أن هذه البركة- لا تنال ذريتهما جميعا.. بل ينالها من أراد اللّه سبحانه وتعالى به الخير والإحسان من ذريتهما.. فمن ذريتهما سيكون المؤمن المحسن، ومن ذريتهما سيكون الكافر الظالم.. وهذا ما يشير إليه وصف الظلم بأنه مبين.. إذ أنه لا ظلم أعظم من الكفر والشرك باللّه، كما يقول سبحانه:
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [13: لقمان].
وقد يسأل سائل: لما ذا لم تكن هذه البركة عامة شاملة في ذرية هذين النبيين المباركين، إلى يوم الدين؟.
والجواب: أن ذلك- لو كان- لرفع التكليف عن كل من ولد لهذين النبيين، وعمن ولد لذريتهما، وذرية ذريتهما.. إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
وهذا ما لا يدخل على حكمة اللّه، فيما قضى به في عباده من ابتلاء.
ليميز اللّه الخبيث من الطيب.
وهكذا خرج إبراهيم من هذا الابتلاء بهذا الفيض الغدق من فضل اللّه وإحسانه.
فأولا: حفظ اللّه سبحانه له ابنه، وعافاه من الذبح..: {يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}.
وثانيا: قدم اللّه سبحانه له قربانا..: {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
وثالثا: أبقى اللّه سبحانه له ذكرا حسنا، في المؤمنين إلى يوم الدين:
{وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}.
ورابعا: جعل اللّه سبحانه الدعاء له بالصلاة والسلام، قربانا يتقرب به المؤمنون إلى اللّه: {سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ}.
وخامسا: وهب اللّه سبحانه وتعالى له ولدا آخر إلى هذا الولد الذي لم يكن له غيره: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وسادسا: بارك اللّه سبحانه على إبراهيم، وبارك على إسحق تكريما لأبيه وإحسانا إليه.
من الذبيح؟ إسماعيل أم إسحاق؟:
وهنا أمر نحب أن نقف عنده، وهو: من الذبيح؟ إسماعيل.. أم إسحق؟ وهو أمر ما كان يجوز أن نثير حوله جدلا، إذ كان- في رأينا- أوضح من أن يجادل فيه، وهو أن الذبيح- على يقين- هو إسماعيل عليه السلام.
ولكن أصابع اليهود قد لعبت في هذا النسج المحكم، ونسجت حوله خيوطا من الكذب والتضليل، كان لها تأثير في تفكير بعض المسلمين، الذين لهم مقامهم في المسلمين، ومكانتهم في الإسلام، حتى لقد وقف بعضهم موقف الشكّ والتوقف.. وحتى لقد تجاوز بعضهم هذا، فرجّح القول بأن الذبيح هو إسحاق لا إسماعيل!!.
ونحبّ أن ننبّه هنا إلى أننا لا نفاضل بين هذين النبيين الكريمين.
فكلاهما، في مقامه العظيم عند اللّه، وفى مكانه المكين من قلوب المسلمين جميعا.. فالمسلمون جميعا يختمون كل صلاة بهذا الدعاء: «اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم».
وإسماعيل وإسحاق- عليهما السلام- هما رأس آل إبراهيم، وفرعا شجرتها المباركة.
وإنما الذي يدعونا إلى هذا، هو حمل الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر هذا الحديث، على غير ما ينطلق به مدلول ألفاظها، حتى تستجيب للقول الذي دسه اليهود على المسلمين، بأن إسحق هو الذبيح.. وهذا- في رأينا- عدوان على القرآن الكريم، يبلغ حد التبديل، وتحريف الكلم عن مواضعه! وقبل أن ننظر في آيات اللّه التي تحدث بهذا الحديث، يحسن أن نكشف عن وجه اليهود في هذا المقام، وعن المدخل الذي دخلوا على المسلمين منه.
وقبل أن نواجه اليهود بهذه الفرية التي افتروها، بحسن كذلك أن نذكر ما لليهود من جرأة على الكتاب الذي في أيديهم، وعلى العبث به، وإلقاء أهوائهم وضلالاتهم عليه، دون تحرج أو تأثم.. وفى هذا يقول اللّه سبحانه وتعالى فيهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [79: البقرة] ويقول سبحانه فيهم أيضا: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [91: الأنعام] فاليهود- كما وصفهم القرآن- قد بدلوا كثيرا وحرفوا كثيرا في التوراة، ولم يحترموا كلمة اللّه، ولم يقفوا عند منطوقها أو مفهومها.. وقد كادوا للإسلام بهذا كثيرا، ورفعوا من التوراة كل ما كان فيها من دلائل وإشارات على بعثة النبي العربي، كما رفعوا منها كثيرا من الأحكام التي جاء الإسلام يدينهم بها كما جاءت في شريعتهم.. ولم يقفوا عند هذا في الكيد للإسلام.. بل راحوا يدسون على المسلمين أحاديث ينسبونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ويقيمون لها سندا ينتظم في سلسلته عددا من الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، وخاصة من كثرت روايات الحديث عنهم كأبى هريرة وابن عباس- رضى اللّه عنهما- وغيرهما.
وأكثر من هذا، فإن بعضا من اليهود دخل الإسلام، لا عن عقيدة، ولكن ليكيد له.. وقد كشف بعضهم عن ظاهر، انخدع به المسلمون، بما رأوا فيهم من مظاهر الاستقامة، والزهد، والغيرة على الدين، حتى اطمأنوا إليهم، وقبلوا كل ما يأتى من جهتهم.
وحسبنا أن نذكر هنا بولس الرسول الذي كان من أشد اليهود عداوة للمسيح- عليه السلام- وملاحقة له بالأذى، هو وأتباعه.. ثم رأى أن يكيد للمسيحية كيدا أبلغ من هذا، فدخل في دين المسيحية، ثم ما لبث أن أخذ مكان القيادة فيها، وأصبح الداعية الأول بعد المسيح.. وبهذا أمكنه أن يحدث ما أحدث في المسيحية من تثليث، لم يكن أحد من أتباع المسيح وحوارييه يعرف شيئا عنه.. حتى أن الأناجيل الأربعة المعتمدة الآن- على رغم ما حدث فيها من تحريف- لم تجىء فيها إشارة واحدة إلى ألوهية المسيح، وإلى جعله أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس.
نقول هذا لنقيم منه شاهدا على أن هذا النص الذي جاء في التوراة عن أن إسحق هو الذبيح- هذا النص هو من مفتريات اليهود على اللّه، ومن تبديلهم لكلمات اللّه.. ومثل كل مجرم، في أنه لا بد أن يترك على جريمته أثرا ينمّ عنه، وشاهدا يشهد عليه، مهما اجتهد في أخذ الحذر والحيطة، ومهما بلغ من مكر وخبث ودهاء، فقد ترك اليهود على هذا النص الذي حرفوه، ما يشير بأكثر من إصبع، وينطق بأكثر من فم، بأنهم كاذبون مفترون! تقول التوراة التي في أيدى اليهود (فى الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين): وحدث بعد هذه الأمور أن اللّه امتحن إبراهيم. فقال له: يا إبراهيم، فقال هأنذا.. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المريّا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال التي أقول لك.
والتلفيق واضح في هذا النص، لا يحتاج الكشف عن زيفه إلى اجتهاد، إذ يكاد يكون الحكم على زيفه نصّا منطوقا.. وإنه لا اجتهاد مع النص.
فإذا كان إسحق هو الابن الوحيد لإبراهيم، فلا داعى لأن يحدّده اللّه له بالاسم، فيقول له: ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق.. وكان يكفى أن يقال له:
ابنك، أو وحيدك، أو إسحق.
ومن جهة أخرى، فإن التوراة تذكر أنه قد ولد لإبراهيم ابن من زوجه هاجر، اسمه إسماعيل، وأنه ولد قبل إسحق بأربعة عشر عاما.. فكيف يكون إسحق الابن الوحيد لإبراهيم؟ وهل إسماعيل ليس ابنا لإبراهيم حتى يكون إسحق هو الابن الوحيد له؟ ولو قالت التوراة هذا لما كان هناك تضارب في أقوالها.. ولكن التوراة تقول عن إسماعيل إنه ابن إبراهيم.
تقول التوراة: فولدت هاجر لأبرام (إبراهيم) ابنا، ودعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل (الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين).
وإذا كنا نعذر اليهود في هذا التقوّل على اللّه، إذ كان ذلك طبيعة فيهم وشأنا غالبا عليهم، وإذ كانوا إنما يبغون بهذا مصلحة خاصة لهم، وكيدا للإسلام، وتلبيسا على المسلمين.. وإذا كنا نعذر العلماء والدارسين من غير المسلمين، أن يأخذوا بما في التوراة، مما يخالف القرآن الكريم، وأن يرجحوا نصوصها على نصوص القرآن- فإننا لا نجد وجها للعذر فيما كان من بعض المسلمين- وفيهم العلماء الأعلام- من التوقف في نصوص القرآن، إزاء هذا النصّ الذي جاءت به التوراة، أو الأخذ به، وإقامة تأويل الآيات القرآنية عليه.. إن ذلك- كما قلنا- يكاد يكون تبديلا لآيات اللّه، وتحريفا للكلم عن مواضعه.
ومن عجب أن نجد عالما فقيها مفسّرا كالإمام ابن جرير الطبري، يرجّح القول بأن إسحق هو الذبيح.. ومن عجب أيضا أن نجد عالما جليلا، كابن عياض، يذهب إلى هذا المذهب ويقول به، في كتابه: الشفا في التعريف بحقوق المصطفى.
ومن عجب- ولا عجب- أن نرى رجلا كالجاحظ يجعل هذه المقولة من المسلّمات عنده، فيتحدث في كتابه البيان والتبيين، عن إسحق، ويضيف إليه تلك الصفة، وهى أنه الذبيح.
وأكثر من هذا، فإن هناك أحاديث كثيرة تنسب إلى أصحاب رسول اللّه كابن عباس، وابن مسعود وأبى هريرة وغيرهم، وفيها أن إسحق هو الذبيح.
وفى تفسير ابن كثير مقولات كثيرة في هذا المقام، تضاف إلى صحابة رسول اللّه، لتقع من النفوس موقع القبول والتسليم.. وقد فضحها ابن كثير رضى اللّه عنه، وكشف عن المصدر الذي جاءت منه.. يقول ابن كثير: وهذه الأقوال- واللّه أعلم- كلها مأخوذة عن كعب الأحبار فإنه لما أسلم في الدولة العمريّة، جعل يحدث عمر رضى اللّه عنه، عن كتبه قديما، فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة- واللّه أعلم- حاجة إلى حرف واحد مما عنده.
ولا نجد حجة أبلغ ولا أقوى من تلك الحجج الدامغة التي قدمها الإمام ابن تيمية- نضر اللّه وجهه- في دفع تلك الفرية، وفضح هذه الدسيسة التي دسها اليهود على هذه الحادثة.
ولا يستمدّ ابن تيمية حججه من نصوص الكتاب الكريم وحده، إذ أن الذين لا يدينون بالإسلام، لا يأخذون أنفسهم بنصوص كتابه، ولهذا يعمد ابن تيمية إلى الواقع التأريخي لإبراهيم وذريته، وللظروف التي عاش فيها مع زوجيه- سارة وهاجر- ومع ولديه- إسماعيل وإسحق.
ويقيم على ذلك شواهد من التوراة نفسها، ثم يعمد إلى هذا النصّ الذي تصرح فيه التوراة بأن إسحق هو الذبيح فيكشف عن زيفه وباطله.
يقول ابن تيمية رحمه اللّه: وهذا القول- أي القول بأن إسحق هو الذبيح- متلقّى من أهل الكتاب (يعنى اليهود) مع أنه باطل بنصّ كتابهم: فإن فيه: إن اللّه أمر إبراهيم أن يذبح ابنه، بكره ولا يشكّ أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده والذي غرّ أصحاب هذا القول- أي القول بان الذبيح هو إسحق- أن في التوراة التي بأيديهم: ادع ابنك إسحاق.
وهذه زيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: ادع ابنك ووحيدك ولكن اليهود حسدت بنى إسماعيل على هذا الشرف، وأحبّوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختاروه لأنفسهم دون العرب، وأبى اللّه أن يجعل هذا إلّا لأهله.
ثم يمضى ابن تيمية فيقول:
وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحق، واللّه تعالى، قد بشّر أم إسحق به، وبابنه يعقوب.. فقال تعالى عن الملائكة، إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: {لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} [70- 71: هود] فمحال أن يبشرها اللّه بأن يكون لها ولد، ثم يأمر بذبحه؟.. ولا ريب أن يعقوب عليه السلام- داخل في البشارة، فتتناول البشارة إسحق، ويعقوب في لفظ واحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه؟.
يريد ابن تيمية أن يقول هنا، إن البشرى التي تلقتها سارة في مواجهة إبراهيم، كانت بأن يولد لها ولد، هو إسحق، وأن يولد لإسحق ولد هو يعقوب.. وهذا يقطع بأن إسحق لن يموت حتى يولد له يعقوب.. وهذا يقطع أيضا بألا يكون إسحق هو القربان الذي يتقرب به إبراهيم إلى ربّه.
إذ لا بد- بحكم هذه البشرى- أن يعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال، ويتزوج، ويولد له.. في حين أن الذي يذبح- عادة- يكون غلاما حدثا.. وهذا ما كان في شأن الولد الذي قدمه إبراهيم للذبح، كما يقول اللّه تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}.
.. وهذا يكون في سن لا تتجاوز العاشرة.
ثم يقول ابن تيمية: ويقال أيضا: إن اللّه سبحانه لمّا ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات قال: {فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} ثم قال تعالى: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}.
فهذه بشارة من اللّه تعالى، له، شكرا على صبره على ما أمر به.. وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنصّ فيه.
فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته.. لمّا صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر ربه، جازاه اللّه على ذلك بأن أعطاه النبوّة- قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده، وأن يكون نبيا، ولهذا نصب {نبيا} على الحال المقدر، أي مقدرا نبوّته، فلا يمكن إخراج البشارة من أن تقع على الأصل، ثم تخصّ بالحال الجارية مجرى الفضيلة.. هذا محال من الكلام.. بل إذا وقعت البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى.
ثم يمضى ابن تيمية فيقول: وأيضا فإن اللّه سبحانه وتعالى، سمّى الذبيح حليما.. يشير إلى قوله تعالى: {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح، طاعة لربه.. ولما ذكر إسحق سماه عليما.
فقال تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [28: الذاريات].
وأيضا.. فإنهما.. أي إبراهيم وسارة.. بشرا به (يعنى إسحق) على الكبر، واليأس من الولد وهذا بخلاف إسماعيل، فإنه ولد قبل ذلك (كما تصرح بذلك التوراة).
هذا بعض ما ساقه ابن تيمية من أدلة على أن إسماعيل هو الذبيح.. وإذا كان لنا أن نضيف إلى هذا شيئا، وهو مستغن بذاته عن كل إضافة.
فإنا نقول:
أولا: إن اللّه سبحانه ذكر عن إسماعيل قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [54: مريم].
وصدق الوعد، هو صفة كاشفة لما كان من إمضاء إسماعيل ما وعد به أباه في قوله: {يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وقد وجده كما وعد، لم تختلج فيه خالجة تردّد، أو رجوع عن هذا الوعد.
بل مضى به إلى غابتة صابرا، مستسلما لأمر اللّه، منقادا ليد أبيه، حتى أضجعه مضجع الذّبح، وبدأ يجرى السكّين على رقبته! وقد تكرر في القرآن وصف إسماعيل بالصير، وجمعه مع الكرام الصابرين من رسل اللّه، فقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [82- 85: الأنبياء] هذا، على حين لم يجر القرآن ذكرا خاصا لإسحق، وإنما كان دائما في سباق الحديث عن ذريّة أبيه من الأنبياء.
فاختصاص إسماعيل بهذا الذكر المنفرد، ووصفه بتلك الصفة التي هى من ألزم الصفات لمن يدخل في هذا الامتحان، ويخرج منه سليما معافى- يقطع بأنه الذبيح.
وثانيا: إسماعيل- عليه السلام- كان بكر إبراهيم، يشهد بذلك التاريخ، وتحدث به التوراة.. والعادة التي كانت جارية في التضحية بالأبناء، وتقديمهم قربانا للّه- هى أن يكون الولد البكر، هو القربان الذي يتقرب به إلى اللّه.. ولهذا أضاف اليهود بأيديهم الآثمة وصف {البكر} إلى إسحق مع أنه لم يكن بكرا، وذلك ليسوّدوا وجه الباطل بهذه الفعلة البلهاء، التي كشفت عن زيفهم، إذ ما كان لهم أن يقولوا: إن إسحق هو الذبيح، حتى يكون بكر أبيه، وتلك هى عادتهم التي جروا عليها في التضحية بالأبناء، كما تحدث بذلك التوراة في مواضع كثيرة منها.. حيث كان الولد البكر هو المتخير للتضحية، والمنذور للقربان، كما كان الولد البكر، هو الوارث لكل ما كان لأبيه.
وثالثا: أن إسماعيل، كان دعوة مستجابة من اللّه سبحانه لأبيه إبراهيم، إذ قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} فكان أن بشره اللّه سبحانه بقوله {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ}.
أما إسحق، فقد كان بشرى غير منتظرة، بشر اللّه بها امرأة إبراهيم، على يأس من أن يكون لها ولد، إذ يقول اللّه تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} [71- 72: هود].
وهذا يعنى أنه لو أراد إبراهيم أن يقدم ابنا من أبنائه قربانا للّه، لكان الحقّ يقتضيه أن يقدم الولد الذي طلبه، واستجاب اللّه له فيه، لا أن يقدم الابن الذي وهب اللّه إياه امرأته.. إن ذلك مما يدخل الضيم على هذه الهبة العظيمة من اللّه، الواهب المنان.
ولا يعترض على هذا، بأن القرآن الكريم قد ذكر أن اللّه سبحانه بشر إبراهيم بإسحاق في قوله تعالى: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}.
فإنه إذ كانت البشرى لامرأته بالولد، فإنها في الوقت نفسه بشرى له.. وخصّت هى بالبشرى، إذ كانت ولا ولد لها، على حين كان لإبراهيم ولد من امرأته هاجر وهو إسماعيل.


{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ}.
هو استئناف لقصة أخرى من قصص أنبياء اللّه، وما أفاض عليهم اللّه سبحانه وتعالى، من جزيل عطاياه، وسابغ أفضاله.. وقد ذكرت الآيات السابقة قصة نوح وإبراهيم.
وهنا في هذه الآيات تذكر قصة موسى وهرون، ثم قصة إلياس، كما سنرى.
والمنّ: في الأصل تذكير المحسن للمحسن إليه بالإحسان، في شيء من الاستعلاء، الذي يجرح العواطف ويؤذى الشعور. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [17: الحجرات].
ومنّ اللّه سبحانه وتعالى على عباده بتذكيرهم بنعمه وإحسانه إليهم- ليس فيه شيء مما يكون بين الناس والناس من منّ.. بل هو الشرف الذي لا ينال، والعزة التي لا تطاول، أن يكون الإنسان بموضع الإحسان من ربه.
إنه إحسان من مالك الإحسان، وفضل من رب الفضل، وجود من صاحب الجود.. فمن أصابه شيء من عطاء ربه وإحسانه، فهو تاج شرف يزين به جبينه، وثوب فخار وعزة يمشى به في الناس.
فمن يستحى أن يمد يده إلى اللّه سائلا متضرعا؟
ومن يجد في صدره حرجا- من أمير أو صغير- أن يسأل رب الأرباب، وسيد الملوك والأمراء؟
روى أن لبيدا الشاعر، تلقّى من أحد الأمراء عطاء جزلا، وكان قد حرّم على نفسه أن يقول شعرا بعد أن أسلم، فقال لابنته- وكانت شاعرة- أجيبى عنى الأمير، فمدحته بقصيدة ختمتها بقولها:
فعد إنّ الكريم له معاد *** وظنى بابن أروى أن يعودا
فقال لها أبوها أحسنت يا بنية، لو لا أنك سألت!! فقالت: إن الملوك لا يستحى من مسألتهم! فقال لها أبوها، وأنت في هذا أشعر!! فالمنّ إنما يستقبح حين يكون بين الأنداد، أو المتقاربين منزلة.
أما حين يكون المنّ من عظيم لصغير، فهو تنويه به، وهو مدح له، وهو ثناء، عليه.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ} هو تنويه بشأنهما، ورفع لقدرهما عند اللّه، وأنهما أهل لفضله وإحسانه.
قوله تعالى: {وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}.
الكرب العظيم: هو ما كان فيه بنو إسرائيل من محنة قاسية تحت يد فرعون، كما يقول سبحانه: {وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [30- 31: الدخان].
فهذا من منن اللّه سبحانه وتعالى على عبديه، موسى وهرون، وعلى قومهما، إذ نجاهما من هذا البلاء المبين، الذي كانوا فيه تحت يد فرعون.
قوله تعالى: {وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ}.
والنصر والغلب، هو ما كان من نجاة بنى إسرائيل، وغرق فرعون.
إذ كانت هناك معركة قائمة فعلا بين الفريقين.. حيث كان موسى وبنو إسرائيل جادين في الهرب، وكان فرعون من ورائهما بجنوده يريد اللحاق بهم.. ولو لحق بهم لأهلكهم جميعا.
قوله تعالى: {وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ}.
المستبين: أي الواضح البين.. وهو التوراة.
وقد نسب الكتاب إلى موسى وهرون، مع أن الكتاب كتاب موسى، لأن هرون كان يبشر في قومه بهذا الكتاب، وإن لم يكن تلقاه من ربه.!
فهو شريك في الرسالة، وشريك في الكتاب بهذا الاعتبار!.
قوله تعالى: {وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.
هذه الآيات، تعدد النعم التي أنعم اللّه بها على هذين النبيين الكريمين.
وهذا هو جزاء المحسنين من عباد اللّه.. وقد شرحنا في آيات سابقة المعاني التي ضمت عليها هذه الآيات.
قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}.
اختلفت أقوال المفسرين في إلياس عليه السلام والذي لا شك فيه هو أن إلياس عليه السلام كان معروفا عند العرب، فيما يحدثهم به اليهود عن أنبيائهم.
وإلياس، هو المذكور في التوراة باسم إيليا بن متى.. وهو من أنبياء بنى إسرائيل، الذين سبقوا زكريا ويحيى عليهما السلام.
وقد كان اليهود، لجفاء طبعهم، وبلادة حسهم، وكلب أنانيتهم- ينظرون إلى اللّه نظرا قاصرا محدودا، فيرونه إله إسرائيل، لا إله العالمين، ومن ثمّ جعلوه قائد جيوشهم، وسموه {رب الجنود} ثم تمادوا في هذا التصور الخاطئ لجلال اللّه وعظمته، فتصوروه رجلا شديد البأس، مثل فرعون الذي كانوا يرون فيه أقصى ما يمكن أن يتصوروا من قوة، حتى لقد امتلأت التوراة بالحديث عن اللّه، بأنه {رجل حرب}.
وحتى إنهم ليتحدثون إليه على لسان أنبيائهم كحديثهم مع واحد منهم.
فكانت دعوة إلياس- عليه السلام- إلى اليهود، هى أن يصححوا هذا الفهم القاصر الجهول، للّه، وأن يقيموا وجوههم إليه على أنه ربّ العالمين! فقوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا؟} إنكار عليهم أن يدعوا اللّه بعلا.. والبعل هو الرجل، كما في قوله تعالى: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [72: هود].
وقوله: {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}؟
أي أتدعون اللّه رجلا، وتلبسونه صفات الرجال، وتتركون دعوته بالصفات اللائقة به، وهو أحسن الخالقين، ورب العالمين؟.
قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.
أي أنّهم إذ لم يأخذوا بنصحه، ولم يقبلوا ما دعاهم إليه من تصحيح معتقدهم في اللّه- {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي فهم لهذا سيساقون إلى الحساب والجزاء بين يدى اللّه يوم القيامة، وسيجزون جزاء المكذبين الضالين.
{إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ويستثنى من هذا الجزاء عباد اللّه الذين أخلصوا دينهم للّه، ولم يلبسوا إيمانهم بالضلالات والأباطيل.
قوله تعالى: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.
مضى تفسير أمثال هذه الآيات.
والياسين: هو إلياس الذي جاء ذكره في قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}.


{وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} الظرف {إذ} هو قيد لنجاة لوط وأهله بسبب أنه كان من المرسلين، الذين اختارهم اللّه لحمل اللّه رسالته إلى عباده، فدخل بهذا في الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} [51: غافر].
وقوله تعالى: {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ} إشارة إلى امرأة لوط، التي كانت من الضالين، الذين لم يستجيبوا لدعوته، فأهلكها اللّه فيمن أهلك من قوم لوط، وقد ضربها اللّه سبحانه وتعالى مثلا لنبتة السوء تنبت في الأرض الطيّبة، فقال تعالى فيها وفى امرأة نوح: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [10: التحريم].
والعابرون: هم من عبروا، وهلكوا، وعلتهم غيرة التراب. وقوله تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ}.
إشارة إلى قوم لوط الذين أهلكهم اللّه، بعد أن نجّى لوطا وأهله، إلا امرأته، التي هلكت مع الهالكين قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
الخطابللمشركين من قريش، وأنهم يمرون على أطلال هؤلاء القوم الهالكين، ويرون ما حل بهم من غضب اللّه ونقمته.. يرون ذلك في وضح النهار، ويرونه بالليل، وذلك في طريق تجاراتهم إلى الشام.
وفى قيد المرور بالصباح وبالليل، إشارة إلى أن آثار القوم الهالكين قائمة في مكانها، يراها كل من يمر بها في أي وقت.. إنها في معرض النظر دائما.
وفى هذا تهديد لهؤلاء المشركين، أن يفعل اللّه بهم ما فعل بإخوان لهم من قبل، خالفوا رسولهم، وكذبوه، وتهددوه بالأذى.. فلو أنه كان لهؤلاء المشركين عقول، لكان لهم في مصارع الظالمين عبرة ومزدجر! قوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}.
يونس- عليه السلام- هو نبى من أنبياء اللّه، ورسول من رسله إلى قرية من قرى الشام، اسمها نينوى.
وهو إذ أبق إلى الفلك المشحون، كان من المرسلين، أي لم تنزع عنه صفة الرسالة.
وأبق: أي هرب، وهروبه كان من الرسالة التي حملها إلى قومه، حيث لم يصبر طويلا على أذاهم، فسمى آبقا، أي هاربا، كما يأبق العبد من سيده. وسيد يونس، هو اللّه سبحانه وتعالى.
والفلك المشحون: أي الممتلئ بالناس والأمتعة.
وقوله تعالى: {فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}.
ساهم: أي اقترع، وأخذ سهما.. والمدحضين: المغلوبين، الساقطين، الذين خاب سهمهم.. ومنه حجة داحضة: أي ساقطة، غير مقبولة.. وأرض دحض: أي زلق، لا يثبت من يمشى عليها.
أي أن يونس، حين فر من قومه، وزايل المكان الذي يجب أن يكون فيه، ليؤدى رسالة ربه- ركب مركبا مشحونا، ثم حين سارت السفينة واحتواها البحر، ماجت واضطربت، وكادت تغرق.. وكان من تدبير ركاب السفينة أن يتخففوا من أمتعتهم، فألقوها في اليم، ثم لمّا لم يجد ذلك شيئا، رأوا أن يلقوا ببعض ركابها في الماء، حتى يسلم الباقون من الغرق، ثم إنه لكى يكونوا جميعا على سواء في هذا الأمر، اقترعوا على من يخرج من السفينة منهم، فأصابت القرعة- فيمن أصابت- يونس.
{فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}.
قوله تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}.
أي حين وقعت القرعة على يونس، وألقى به في الماء- التقمه الحوت..!!
وفى تعريف {الحوت} إشارة إلى أنه حوت مرصود لهذه الغاية، وأنه مسوق بقدرة اللّه إلى تلك المهمة، وهى ابتلاع يونس!.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُلِيمٌ} جملة حالية، أي ابتلعه الحوت، وهو ملوم على ما كان منه من فرار من قومه.
و{مليم} اسم فاعل من الفعل ألام، أي أتى ما يستحق اللوم عليه.
قوله تعالى: {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
أي لو لا أن يونس حين التقمه الحوت، ذكر ربه، واستغفر لذنبه، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى على لسانه: {فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لو لا هذا، لما خرج من بطن الحوت، ولما عاد إلى الحياة إلى يوم البعث.. ولبثه في بطن الحوت إلى يوم البعث، أي موته في بطنه، ثم قبره فيه.. إلى أن يموت الحوت، فإذا مات الحوت، كان البحر قبرهما معا.
والسؤال هنا هو: ما ذا لو لم يكن يونس من المسبحين؟ أكان يلبث في بطن الحوت إلى يوم البعث؟.
والجواب بلا تردد: نعم، فقد قرن اللّه سبحانه الأسباب بالمسببات، وجعل المسببات رهنا بأسبابها.
وحيث أن اللّه سبحانه وتعالى، قد جعل نجاة يونس قدرا من قدره، وحيث أنه سبحانه، قد جعل نفاذ هذا القدر متعلقا بوقوع التسبيح من يونس- فإنه كان من الحتم المقضىّ، أن يسبّح يونس حين التقمه الحوت، وأن ينجو بسبب هذا التسبيح.
فتسبيح يونس قدر من قدر اللّه.. تماما، كنجاته من بطن الحوت.
وعلى هذا فإنا إذا أعدنا السؤال بصورة أخرى، وهو:
أما وقد نجا يونس من الموت في بطن الحوت.. فهل لو لم يسبح أكان ينجو؟.
والجواب هنا هو: إنّ فرض عدم التسبيح أمر مستحيل، ما دامت النجاة قد تمت، وما دامت النجاة مشروطة بالتسبيح.. وفى الأصول الفقهية: أن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب!.
وقد سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم: ما أدوية نتداوى بها.. أتردّ من قدر اللّه شيئا؟.
فقال- صلوات اللّه وسلامه عليه-: {هى من قدر اللّه..}!
فالقدر ليس حكما مستقلا بذاته، منعزلا عن أحداث الوجود.. بل إن كل قدر هو مقدور لأقدار سابقة، كما أنه- وهو مقدور- هو قدر لأقدار لاحقة.
قوله تعالى: {فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}.
نبذناه. أي طرحناه، ونبذ الشيء: لفظه وطرحه.
والعراء: الخلاء.
واليقطين: اختلف فيه.. أهو الدّباء، أي القرع، أم الطّلح، وهو الموز..؟
وفى قوله تعالى: {فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ} إشارة إلى أن يونس عليه السلام، ما يزال واقعا تحت اللائمة من ربه سبحانه وتعالى، وأنه لم ينل الرضا بعد، وإن كان في الطريق إلى هذه الغاية، بما أخذ به من تربية وتأديب من ربّه!.
فلقد نبذه اللّه سبحانه بالعراء، ولو شاء سبحانه، لكساه سندسا وحريرا.
ولكن هكذا كانت إرادة اللّه فيه، أن يخرجه من الدنيا عاريا، كما خرج من قومه هاربا.. ولقد أظلّه- سبحانه- بشجرة من تلك الأشجار التي تنبسط أوراقها على سطح الأرض، فيضطر المستظل بها إلى أن يضع خذه على الأرض!.
وهذا كلّه أدب سماوى لعبد من عباد اللّه المكرمين.. وهو أدب فيه معاناة ذاتية، وتعمل لها أجهزة الإنسان كلها، من جسمية وعقلية، وروحية.
ولو شاء سبحانه- لما أدخل عبده يونس في هذه التجربة، ولكنه- سبحانه- قضت إرادته- جلّ وعلا- أن يقوم كل كائن بما أودع فيه من قوّى.
ففى ذلك تحقيق لذاته، وإثبات لوجوده.. والإنسان من بين الكائنات كلها، النصيب الأوفى في هذا المجال، فذلك من مقتضى الأمانة التي حملها الإنسان، والتي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها!.
قوله تعالى: {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}.
وهذا الإرسال، هو بعد تلك التجربة، فهو إرسال متجدد، بعد أن ليس يونس عزما جديدا، ومشاعر جديدة.. وكأنه بهذا يبدأ الرسالة من جديد!.
وقوله تعالى: {إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} هو التحديد الحق، الذي يضبط أعداد تلك الجماعة.. فهى ليست مائة ألف، بل إنها نزيد على مائة ألف، أما هذه الزيادة على مائة الألف، فلا يمكن ضبطها إلا للحظة لا تتجاوز غمضة عين، إذ كانت مواليد هذه الجماعة مستمرة، ونموها مستمرا في كل لحظة، وإن أي قول يضبط به عددها ضبطا كاملا، لا يمكن أن يقع موقع الصدق الذي يمثل الواقع، حيث أنه ما يكاد المحصى الذي يحصى هذه الأعداد- ما يكاد ينطق بما أحصى، حتى تكون الحياة قد ألقت إلى هذه الأعداد بأعداد.. فإذا قال إنها مائة ألف ومائتان وعشرون مثلا، تغير هذا العدد بمجرد تلفظه به، فزاد واحدا أو اثنين.. أو عشرة، أو أكثر.
والذي يلفت النظر أيضا من هذا التعبير القرآنى، هو لفظ {يزيدون}.
فهذا اللفظ لا يتغير أبدا، وحكمه ملازم لهذه الجماعة ما دامت على الحياة، فهى في زيادة، وليست في نقص، إذا أن هذا هو شأن الكائنات الحية.. إنها في زيادة.
حيث أن مواليدها أكثر من أمواتها.
قوله تعالى: {فَآمَنُوا.. فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
وفى العطف بالفاء، دليل على سرعة استجابة القوم لرسولهم.. وهذا ما يكشف عن أنهم كانوا على استعداد للإيمان، وإن توقفوا شيئا ما، عند دعوة يونس لهم أول الأمر.. ولو أنه صبر قليلا على خلافهم له، لآمنوا.
وهذا التلبث والانتظار في عدم قبول الدعوة، هو حق لهم، إذ أن من حق الإنسان أن يلقى الأمور بعقله، وأن يأخذ الوقت الكافي للنظر والبحث، حتى يعرف ما هو مدعو إليه، وهل هو حق أو باطل؟.
وفى هذه القصة، إشارة إلى أن الإنسان- من حيث هو إنسان-
ليس شرّا خالصا، وأنه يشتمل على قدر كبير من الخير، وأنه كما في الناس الأشرار الذين يغلب شرّهم خيرهم، ويغتال ما فيهم من فطرة، فإن في الناس من يغلب خيرهم شرّهم، وأنهم مستعدون لتلقّى الخير.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أنه ليس كلّ النّاس على شاكلة هؤلاء المشركين من قريش، الذين جمدت عقولهم على هذا الضلال الذي أمسك بها.. ثم إن في هذا إشارة ثالثة إلى أنه ليس للرسول أن تقوم له الحجة على قومه، إلا بعد أن يبلغ رسالته إليهم كاملة، وأن يحتمل في سبيلها كلّ جهد، وأن يبذل لها كل قدرة ممكنة لديه، وإلا كان في موضع اللوم والعتب، كما أن المرسل إليهم يكونون تحت طائلة اللوم والعقاب، لو أنهم دعوا وأبوا أن يستجيبوا.. وهكذا يسوّى حساب الناس عند اللّه. كلّ يأخذ حقّه كاملا، يستوى في هذا الحساب، الرسل ومن أرسلوا إليهم.. إنهم جميعا عباد اللّه.. وإنه لا محاباة ولا مجاملة.
ولا شك أن هذه اللّفتة السماوية إلى الإنسان- من حيث هو إنسان- جديرة بأن تفتح عيونا أعماها الضّلال، إلى ما للّه سبحانه على الإنسان من فضل وإحسان، وأنه لن تخفّ موازينه عند اللّه- حتى مع أنبيائه وسفرائه إلى خلقه- إلا إذا استخفّ الإنسان بميزانه، واستهان بوجوده، وقبل أن ينزل راضيا، عن هذا المقام الكريم الذي أحلّه اللّه فيه، فزهد في عقله، وأبى أن يوجهه ليرتاد له مواقع الخير.
فهل وقف المشركون من قريش، وغير قريش، عند هذا؟ وهل أخذوا بحقّهم الإنسانى في هذا الوجود؟ وهل هم مستعدّون لأن يثبتوا أنهم أهل لهذا المقام الكريم، الذي سوّى اللّه سبحانه وتعالى فيه بين عباد اللّه، وبين رسل اللّه، في موقف الحساب والمساءلة؟ ذلك ما يكشف عنه الزمن منهم، وذلك ما ينجلى عنه الموقف بينهم وبين هذا الرسول الكريم الذي لا يزال معهم.

1 | 2 | 3 | 4